الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فما زلنا نعيش نفحات العشر من ذي الحجة، أفضل أيام الدنيا على الإطلاق، كما قال صلى الله عليه وسلم: (أفضل أيام الدنيا أيام العشر).
أيامٌ العمل الصالح فيها من أحب الأعمال إلى الله، قال صلى الله عليه وسلم: (ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر).
واليوم نقف على درة هذه الأيام وتاجها، نقف على أعتاب يومٍ عظيم مبارك، إنه يوم عرفة، إنه يوم العتق من النار، قال صلى الله عليه وسلم:(مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ الْمَلائِكَةَ).
إنه يوم تكفير السيئات
قال صلى الله عليه وسلم: (صيام يوم عرفة إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده).
إنه يوم الدعاء والإجابة.
قال صلى الله عليه وسلم: ( خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيّون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير ).
إنه يوم تنزل الرحمات وخزي الشيطان.
جاء في الأثر: (مَا رُئِيَ الشَّيْطَانُ يَوْمًا هُوَ فِيهِ أَصْغَرُ وَلَا أَدْحَرُ وَلَا أَحْقَرُ وَلَا أَغْيَظُ مِنْهُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِمَا رَأَى مِنْ تَنَزُّلِ الرَّحْمَةِ وَتَجَاوُزِ اللَّهِ عَنْ الذُّنُوبِ الْعِظَامِ).
يوم أكمل الله فيه الملة، وأتم به النعمة.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن رجلا من اليهود قال: يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرؤونها، لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا. قال: أي آية؟ قال: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا) سورة المائدة:5.
قال عمر رضي الله عنه: قد عرفنا ذلك اليوم الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم بعرفة يوم الجمعة.
يوم العيد لأهل الموقف
قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يوم عرفة ويوم النحر وأيام منى عيدنا أهل الإسلام" رواه أبو داود.
عظم الدعاء
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: خير الدعاء دعاء يوم عرفة، *وخير ما قلت أنا والنبيّون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير* رواه الترمذي (3585) وحسَّنه الألباني في " صحيح الترغيب " (1536) .
كثرة العتق من النار في يوم عرفة
قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة" رواه مسلم.
مباهاة الله بأهل عرفة
أهل السماء قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله يباهي بأهل عرفات أهل السماء" رواه أحمد.
صيام يوم عرفة
قال رسول صلى الله عليه وسلم: "صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده "رواه مسلم..
فيوم عرفة مرتبط بذلك الجمع المهيب المبارك على الجبل، وهذه المناسبة المباركة هي الوقوف بباب الرحمن جل وعلا للتطهر والتأهل قبل أن يؤْذَن لهم بزيارة الرب سبحانه في اليوم التالي؛ ولذلك كان هذا التطهر الذي يؤهل صاحبه لزيارة رب السماوات والأرض سبحانه هو أعظم تأهل يرفع صاحبه إلى مقام القرب من الله تعالى على الإطلاق.
وإذا تأملنا ما شُرع في هذا اليوم من الدعاء والإكثار من التهليل سنجد أن المعنى ينصبُّ في مقصد ترسيخ التوحيد الخالص لله تعالى؛ لأن أعظم مظاهر هذا التوحيد هو الإقرار باللسان بكثرة التهليل وشدة الخضوع والذل والافتقار له وحده سبحانه الذي يمنع من الالتفات إلى غيره والتجرد له، ويظهر ذلك في لباس الإحرام المتجرد من الدنيا وفي الدعاء الباكي المحترق الذي تتجسد فيه أسمى مظاهر الذل والافتقار له وحده سبحانه دون سواه فالقلب لا يلتفت لسواه بل لا يرى أصلا سواه لأن كل ما سواه يتلاشى وينخنس إلى أصله الذي هو العدم ولا يبقى في القلب ما يستحق التوجه إليه إلا الحق سبحانه ولا أحد يستحق أن يوقَف ببابه ويُعبد ويُسأل إلا الحي القيوم الملك الوهاب سبحانه.
فهذا التوحيد والتجرد هو أعظم ما يصلح القلب على الإطلاق، وأعظم تجلياته تكون في الحج في يوم عرفة، ولذلك إذا تحقق هذا المقصد على أكمل وجه فإنه كفيل بإبراء القلب وإصلاحه صلاحا لا ينكسر بعده أبدا، ولذا كان الحج المبرور عبادة العمر إذ إنه يُصلح ما فات ويقيل العثرات ويصلح ما هو آت فيكون وقودا لا ينفد.
ولكن رحمة الله تعالى تأبى أن تتجاوز غير الحاج في هذه المناسبة الجليلة المباركة فشرع له الصوم لأنه أقرب عبادة تتحقق فيها تلك المعاني من التوحيد ـ إذ لا يكون الصوم إلا لله ـ والتجرد لله من كل ما يَلفت عنه من الدنيا وشهواتها، ولكن الصوم لا يقوى على ما يقوى عليه الحج؛ فجُعل كل سنة ليقوم في السنة مقام الحج في العمر.
وهذا التوحيد هو المقصود الأعظم من الخلق لأنه لب العبادة التي خلقنا من أجلها.
ولكن مفهوم التوحيد والعبادة يبقى أوسع من دائرة الشخص نفسه وإن كانت هي الأساس؛ إذ هو الخلافة التي تقتضي أيضا توحيدَ الله تعالى وإقامةَ أمره ونشرَ نوره وإحقاق الحق وإبطال الباطل في الأرض كلها، لكن دائرة النفس هي الأصل وبقدر إحكام التوحيد في النفس بقدر إحكامه في الأرض، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: "المجاهد من جاهد نفسَه في ذات الله".