شرح متن الجزرية (بَابُ التَجْوِيدِ)

 


(بَابُ التَجْوِيدِ)




27) وَالأَخْذُ بِالتَّجْوِيدِ حَتْمٌ لازِمُ مَنْ لَمْ يُصَحِّحِ الْقُرَانَ آثِمُ


يعرف علم التجويد بأنه: علم يبحث في ألفاظ القرآن الكريم من حيث إخراج كل حرف من مخرجه، وإعطاؤه حقه ومستحقه من الصفات. وحق الحرف: أي الصفات الذاتية، ومستحق الحرف: أي الصفات العرضية، وسبق الحديث عنهما.

وحكم تعلم التجويد النظري (العلمي): أي معرفة قواعد وأحكام علم التجويد (فرض كفاية) إذا قام به البعض سقط الإثم عن الباقين، وإن لم يقم به أحد أثم المسلمون جميعاً.

أما حكم التجويد التطبيقي (العملي): أي قراءة القرآن بأحكام التجويد (واجب وجوباً عينياً) على كل مسلم ومسلمة، فقال تعالى: "وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً" (المزمل:4) والأمر هنا للوجوب، وهذا ما قصده الناظم بقوله: " وَالأَخْذُ بِالتَّجْوِيدِ حَتْمٌ لازِمُ ".

ولبيان معنى قول الناظم: " مَنْ لَمْ يُصَحِّح الْقُرَآنَ آثِمُ "، لا بد من التفرقة بين أقسام اللحن (الخطأ) في قراءة القرآن، وهي:


1-  اللحن الجلي: وهو خطأ يطرأ على اللفظ فيخل بمبنى الكلمة وعرف القراءة (أحكام التجويد)، سواءً أخل بالمعنى أو لم يخل، وهو الخطأ التي يطرأ على الكلمات أو الحروف أو الحركات، وحكمه (يأثم فاعله ) إذا تعمده أو تساهل فيه ويستثنى من كان في لسانه عوج خلقي أو عجمة أو كان كبيراً في السن وتخشب لسانه فلا يتمكن من نطق الحروف نطقاً سليماً.


2-اللحن الخفي: وهو خطأ يطرأ على اللفظ فيخل بعرف القراءة (أحكام التجويد) دون الإخلال بمبنى الكلمة. وهذا اللحن ينقسم إلى قسمين:

أ‌- اللحن الخفي بسيط الخفاء: كقصر المد اللازم أو ترك الغنة في الميم والنون المشددتين، وحكمه (يأثم فاعله ) إذا تعمده أو تساهل فيه لوجوب العمل بالتجويد وجوباً عينياً.

ب‌- اللحن الخفي شديد الخفاء: وهذا اللحن لا يعرفه إلا المهرة من القراء كالزيادة في مقدار المد أو الغنة زيادة يسيرة، وحكمه(لا يأثم فاعله ) ولكن ينبغي أن يجتهد في تجنبه.

فائدة: الإثم يلحق بالقارئ الذي يلحن لحناً جلياً أو خفياً بسيط الخفاء إن قصر في التعلم، لكن إن اجتهد في التعلم ومع ذلك يقع في اللحن أثناء تعلمه فلا يأثم بل وله أجران، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ، وَالَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَتَتَعْتَعُ فِيهِ، وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ لَهُ أَجْرَانِ " (متفق عليه).

 

28) لأَنَّهُ بِهِ الإِلَهُ أَنْزَلاَ وَهَكَذَا مِنْهُ إِلَيْنَا وَصَلاَ

29) وَهُوَ أَيْضًا حِلْيَةُ التِّلَاوَةِ وَزِينَةُ الأَدَاءِ وَالْقِرَاءَةِ

يبيَّن الناظم في هذين البيتين بعض الأسباب الموجبة لتجويد القرآن العظيم، وهي:

1-   أنه أُنزل من عند الله سبحانه وتعالى مُجَوَّداً.

2-  أنه نُقل إلينا بالتواتر مُجَوَّداً، أي نقله إلينا جمع عن جمع يستحيل تواطؤهم على الكذب، والتواتر يفيد العلم اليقيني الذي لا يحتمل غيره، والقرآن الكريم نقل إلينا كذلك بطريق التواتر جيلاً بعد جيل كتابةً ومشافهة، فقد رواه الصحابة، رضي الله عنهم، ونقلوه إلى من بعدهم، وهكذا حتى وصل إلينا كما نزل، وهذا ما يُعرف بتلقي القرآن الكريم بالسند المتصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

3-أنه الرونق الذي تتألق وتتزين فيه التلاوة والأداء والقراءة في أتم صورة، والتلاوة: قراءة القرآن متتابعاً كالأوراد، والأداء: تلقي القرآن عن المشايخ والمقرئين، والقراءة: تشمل التلاوة والأداء فهي أعم منهما.

فائدة: للتلاوة ثلاثة مراتب بحسب السرعة والبطء، وهي:

1-التحقيق: وهو قراءة القرآن بتؤدة وطمأنينة وترسل مع تدبر المعاني ومراعاة أحكام التجويد، ويستحن قراءة القرآن بالتحقيق في مقام التعليم.

2-الحدر: وهو قراءة القرآن بسرعة مع مراعاة أحكام التجويد.

3- التدوير: وهو قراءة القرآن بحالة متوسطة بين الاطمئنان والسرعة مع مراعاة أحكام التجويد، أي أن التدوير بمثابة التوسط بين مرتبتي التحقيق والحدر.

ومن الجدير بالذكر أن مصطلح الترتيل يعم المصطلحات الثلاثة السابقة، فالترتيل تجويد الحروف ومعرفة الوقوف، ولا غنى للقارئ عنه مهما كانت سرعة قراءته، وقيل الترتيل هو مرتبة بين التحقيق والتدوير.

 


 

30) وَهُوَ إِعْطَاءُ الْحُرُوفِ حَقَّهَا "مِنْ كُلِّ صِفَةٍ" وَمُستَحَقَّهَا

وهنا يبين الناظم تعريف علم التجويد، وسبق بيانه.

 

31) وَرَدُّ كُلِّ وَاحِدٍ لأَصْلِهِ وَاللَّفْظُ فِي نَظِيْرِهِ كَمِثْلِهِ

(وَرَدُّ كُلِّ وَاحِدٍ لأَصْلِهِ): أي: إن التجويد إخراج كل حرف من مخرجه الذي يخرج منه.


(وَاللَّفْظُ فِي نَظِيْرِهِ كَمِثْلِهِ): أي: إنه إذا قرأ القارئ بحرف مثلاً ثم مر معه غيره مثله، فعليه أن ينطق بالحرف الثاني كما نطق بالأول، وهذا ما يسمى بتوحيد المنهج أو السير على نهج واحد في القراءة. ويدخل في ذلك مثلاً المد، فإذا مر القارئ على كلمة فيها مد عارض للسكون ككلمة (المجيد) ومدها أربع حركات، ومن ثم مر على كلمة غيرها فيها مد عارض للسكون ككلمة (شقاق)، فإنه ينبغي على القارئ وفقاً لهذه القاعدة أن يمدها أربع حركات من غير زيادة ولا نقص.

32) مُكَمَّلًا مِنْ غَيْرِ مَا تَكَلُّفِ بِاللُّطْفِ فِي النُّطْقِ بِلاَ تَعَسُّفِ

يعني أن التجويد أيضاً قراءة حروف القرآن مكملة من حيث إخراج كل حرف من مخرجه وإعطائه حقه ومستحقه من الصفات، بسهولة ويسر ولُطف في النطق من غير تكلف ولا تعسف.

والتكلف: هو التصنع والتنطع والتشدُّق في القراءة، وهو القراءة بمشقة بحيث ينجم عنها تغيير ملامح الوجه دون حاجة، يذكر العلماء أن التكلف قد يكون محموداً أو مذموماً، وبينا المذموم أعلاه، أما التكلف الْمَحمود: هو أن تحاول تقويم لسانِك حتى تنهض بنفسك لتقرأ قراءة صحيحة من غير تكلف، وقد يأتي التكلف في بداية التعلّم، ويزول عند تحسُّنِ القراءة.

 والتعسف: هو المغالاة والمبالغة ومجاوزة الحد في القراءة ونطق الحروف.


ومن أسباب التكلف والتعسف: المبالغة في تحقيق الحروف والحركات، والمبالغة في التفخيم والترقيق، وتقليد الأصوات دون ضابط، ومتابعة الألحان في القراءة. وسبيل التخلص من التكلف والتعسف: الحذر من أسبابه، والتلقي والمشافهة على يد المشايخ المهرة العارفين، ورياضة الفم وكثرة التدريب والقراءة، ومراعاة وزن الحرف عند نطقه، وتدبر القرءان عند قراءته.


قال الحافظ أبو عمرو الداني رَحِمَهُ اللهُ: " فليسَ التجويدُ بتمضيغ اللِّسَان، ولا بتقعيرِ الفَمِ ولا بتعويج الفكّ، ولا بترعيد الصوتِ، ولا بتمطيط المشدد، ولا بتقطيع المَدِّ، ولا بتطنين الغُنَّات، ولا بحصرَمة الرَّاءات، قِراءةً تنفر منها الطِباعُ، وتمُجُّها القلوبُ والأسماعُ، بل القراءة السهلةُ، العذبةُ، الحلوة اللطيفة، التي لا مَضْغَ فيها، ولا لَوكَ ولا تعَسُّفَ، ولا تكلُّف، ولا تصنُّعَ، ولا تنطُّعَ، ولا تخرج عن طباعِ العرب، وكلامِ الفصحاء بوجْهٍ من وجوه القراءاتِ والأداء ".

 

33) وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ تَرْكِهِ إِلَّا رِيَاضَةُ امْرِئٍ بِفَكِّهِ

ويذكر الناظم هذا البيت بعد ما عرف التجويد وبين أن له ضوابط وأحكام، فحتى لا يستشعر السامعين استصعاب تحصيله وتعلمه، بين الناظم أن الفرق بين متقن التجويد وتاركه ليس إلا الرياضة بالفك (أي الفكين أو الفم وهنا أطلق الجزء وأراد الكل)، ورياضة الفكين أو الفم تحصل بالمداومة على القراءة بالتكرار والسماع المباشر من المشايخ والمقرئين، وكذلك ترك القراءة بالتجويد ينجم عنها انخفاض في مستوى القارئ، والرجوع إلى مستواه وأفضل من ذلك، يكون برياضة الفكين، ويتأتى ذلك بالمداومة على القراءة والتلقي والمشافهة من المشايخ والمقرئين.

قال الامام ابن الجزري رحمه الله في كتابه النشر في القراءات العشر: " لا أعلم سبباً لبلوغ نهاية الإتقان والتجويد، ووصول غاية التصحيح والتشديد، مثل رياضة الألسن، والتكرار على اللفظ المتلقي من فم المحسن ". 

وقَالَ العَلامَةُ أبو الحسن الصفاقيسي رحمه الله في كتابه تنبيه الغافلين وإرشاد الجاهلين: " وقد كان العالمون بصناعةِ التجويد يَنْطِقُونَ بها سَلِسَةً، سهلةً برفْقٍ، بلا تعَسُّف، ولا تكلُّف، ولا نبرةٍ شديدةٍ، ولا يتمكن أحدٌ من ذلك إلا بالرياضةِ، وتلقِّي ذلك من أفواه أهلِ العِلْم بالقراءة ".





تعليقات